نحن المذنبون جزئيا في عنف السودان
ترجمة أحمد شافعي - يستشري العنف منذ قرابة أسبوع في مدينة الخرطوم.
فقد تعرض ما لا يقل عن 413 شخصا للقتل، ويعاني قرابة المليون من الحصار بلا طعام أو مياه أو كهرباء، فيما تقاتل ميلشيا سابقة من ميلشيات الجنجويد ـ تعرف بقوات الدعم السريع بقيادة الفريق محمد حمدان المعروف بحمتي ـ الجيش من أجل السيطرة على العاصمة السودانية.
بعد أن اندلع العنف مساء يوم السبت من الأسبوع الماضي، أشار كثيرون إلى حقيقة أن السودان لم تمض عليه إلا أربع سنوات متقطعة وهو منخرط في إقامة حكم مدني بعد عقود من الحكم العسكري.
كان اللواء حمدان والفريق عبدالفتاح البرهان ـ قائد الجيش السوداني ـ قد وحَّدا قواتهما للإطاحة بالرئيس عمر حسن البشير من السلطة في 2019 بعد انتفاضة شعبية مناصرة للديمقراطية، واستمر تحالفهما إذ قادا معا انقلابا في أواخر 2021 للإطاحة بالحكومة الانتقالية ذات القيادة المدنية (اسميًّا على أقل تقدير).
كانت التوترات تتصاعد لشهور بين القائدين العسكريين إلى أن انفجرت أخيرا في ظل ضغط اقتراب الموعد النهائي لتسليم السلطة إلى حكومة مدنية.
وقد أشار محللون إلى أن الحركات التي أطاحت بنظام البشير في عام 2019 كانت أضعف وأقل نظامية من أن تنافس الميلشيات المسلحة.
وأشار آخرون إلى «صراع عالمي على السلطة» أوسع نطاقا، تردد أن لاعبين خارجيين هم الذين يقودونه ومنهم روسيا، ودول خليجية، ومصر، بل وجماعة واغنر لدعم أو إقامة روابط مع حمدان أو البرهان اللذين يتقاتلان حاليا من أجل السيطرة على السودان.
وهؤلاء بالفعل لاعبون محتملون في العنف.
لكن المشكلات ترجع إلى وقت أبعد من ذلك.
فحينما لم ينته الصراع في السودان بعد اتفاقية السلام الشاملة سنة 2005 التي كانت بمثابة نهاية لعقدين من الصراع المدني، وقع المجتمع الدولي في نمط مألوف من مفاوضات السلام اللانهائية، بتناوب وسطاء مختلفين، وإحضار الخصوم المسلحين إلى مواقع دولية مختلفة للتفاوض على تنازلات قد تفضي إلى إنهاء العنف.
غير أن المشكلة هي أن حل الصراع الذي يركز على توقيع اتفاقيات سلام تقسِّم السلطة بين الجماعات المسلحة ـ مهما أضيف من بنود كثيرة متعلقة بالإصلاحات السياسية ـ نادرا ما يفضي إلى سلام مستدام.
بل إنه لا يفضي حتى إلى سلام في المدى القريب.
وآثار هذه النوعية من الجهود الخاطئة ـ أي دمار الخرطوم ـ واضحة للعيان.
تعرف الجماعات المسلحة والأنظمة الدكتاتوية أنها ما دامت تشارك في عملية السلام، فإن الضغوط الدولية سوف تنحسر في نهاية المطاف، وبسرعة في أغلب الأحيان.
وأنها إذا ما تعرضت للضغط من أجل توقيع اتفاقية، فالنمطي ألا يوجد غير النزر الهين من الآليات الفعالة لإلزامها بالتنفيذ.
زد على ذلك أن الوقت المخصص لعمليات السلام هذه ـ أي الوقت الذي يصل في حالة السودان إلى عقود ـ إنما تستغله الجماعات المسلحة في حشد السلطة السياسية والعسكرية.
ولقد رأيت هذا يحدث المرة تلو المرة في كلٍّ من السودان وجنوب السودان، حيث كان قادة بعض الجماعات المسلحة الذين تعاملت معهم أكثر اهتماما بمشاهدة مباريات كرة القدم المذاعة تليفزيونيا وهم جلوس على حواف حمامات السباحة بالفنادق وجدولة اللقاءات التي تحقق لهم مصالح خاصة منهم بمناقشة تأثير العنف على الشعب.
وفي الوقت نفسه نرى أن الوسطاء الدوليين ـ وهم في هذه الحالة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة بدعم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي وآخرين ـ يضفون الشرعية على هذه الجماعات المسلحة باعتبار أنها الوسطاء أو الأصوات ذات السلطة ومن ثم الجديرة دون غيرها بالإنصات إلى ما تقوله، في حين يطالبون الشعب السوداني بالتزام الهدوء وانتظار أن يحين الدور عليهم.
ولا يحين هذا الدور أبدا.
في عام 2011، بدأت أعمل مبعوثة خاصة للولايات المتحدة في السودان وجنوب السودان اللذين كانا قد خرجا للتو من سلسلة قاسية من الحروب الأهلية.
وبرغم اتفاقية السلام التي أتاحت لجنوب السودان الانفصال، استمر العنف في دارفور وتجدد في «المنطقتين» على طول حدود السودان الجنوبية مع جنوب السودان.
كنت شابة ومتفائلة، وظننت أن من الممكن للسودان أن يعثر على تسويات مقبولة ـ وإن لم تكن مثالية ـ باسم إنقاذ الأرواح.
كانت الحكومة السودانية تتوق إلى تخفيف الديون، وكذلك إلى رفع العقوبات الأمريكية.
وكان يحدوني الأمل في أن يجد نظام البشير نفسه مرغما على اقتسام جزء يسير من السلطة، فيبدأ البلد أخيرا في التحول الديمقراطي.
وعلى أقل تقدير، كنت أرجو ألا يتواصل تعرض المدنيين للقصف الجوي العشوائي.
وسرعان ما تضاءل تفاؤلي بسبب من أكدوا لي أنه ليس بين الجماعات المسلحة من هي مهتمة فعلا بالسلام.
بل إنها عازمة على تقوية قواعدها السياسية ظفرا بمزيد من السلطة.
وبرغم ذلك، بقيت المفاوضات القائمة بتيسيرات دولية، واستمرت بصورة شبه حصرية بين هذه الجماعات.
واستُبعدت النساء استبعادا شبه تام، وكذلك النازحون داخليا، ومن لم يكونوا جزءا من حركة التمرد المسلحة.
كان تركيزنا منصبا على نيل التنازلات واقتسام السلطة بين الجماعات المسلحة وصولا إلى اتفاقية سلام موقعة لدرجة أننا ـ برغم التشدق بضرورة السلام الشامل والمستدام ـ فقدنا رؤية ذلك الهدف بعيد المدى.
تجلت هذه الديناميات في عام 2019، حينما خرجت النساء للتظاهر في الشوارع وكذلك جماعات أخرى مهمشة بعدما تضررت من الإجراءات التقشفية التي دفعت إليها المؤسسات المالية الدولية.
غير أن النساء برغم دورهن القيادي في الانتفاضة التي أدت إلى الإطاحة في النهاية بالبشير لم يجر احتواؤهن احتواء حقيقيا في الحكومة الانتقالية، وإنما احتواهن التفاوض السياسي والسلمي احتواء هامشيا.
وبدلا منهم، إذا باتفاق سلام آخر قام عليه طرف ثالث يدعو حركات التمرد المسلحة إلى مائدة التفاوض وإلى الحكومة الانتقالية.
بحلول عام 2021، حينما استولى المجلس العسكري على السلطة، مجهزا على كل تفاؤل إزاء مستقبل ديمقراطي في السودان، تشكل من عدة حركات تمرد في دارفور اتحدت مع الميليشيات التي كانت تقاتلها منذ عقود.
وتلك كانت نفس الجماعات المسلحة التي دعيت إلى محادثات سلام عديدة مرارا وتكرارا، وهي نفس الجماعات التي لم تبد قط اهتماما بالسلام، وإنما أبدت اهتماما دائما بالحصول على المزيد من السلطة، من خلال العنف في أغلب الحالات.
وفي وقت أسبق من العام الحالي، التقت الجماعات المسلحة العديدة وممثلون مدنيون مرى أخرى لوضع اللمسات الأخيرة على اتفاق بشأن المرحلة الانتقالية.
وفي هذه المرة، وبرغم أن المفاوضات احتوت استشارات مع النساء وجماعات أخرى سبق تهميشها، فقد كانت أقل كثيرا ما ينبغي، وكان توقيتها متأخرا أكثر مما ينبغي.
فبعد أسابيع من اللقاء، ها هي قوات الدعم السريع والجيش ـ الذي كانت تقوم عليه أركان نظام البشير ـ تخوض معارك في شوارع الخرطوم.
وفي حال استمرار المجتمع الدولي في تصدير أصوات المسلحين والفاسدين على حساب الساعين إلى إصلاح وتمثيل سياسيين حقيقيين، لا يمكن أن ننتظر أقل من استمرار دورة العنف والمعاناة الإنسانية التي شهدناها على مدار الأسبوع الماضي في السودان.
لا يجب أن يتوقف المجتمع الدولي عن محاولة إنهاء الصراعات العنيفة، لكن لا بد لجهود المستقبل أن تميز أولئك المهتمين حقا بالسلام من غير المهتمين به.
فالطبيعة الخبيئة لحل الصراعات الدولية المعاصرة هي أنه في ظل تركيزه حصرا على حمل الجماعات المسلحة على نزع السلاح، غالبا ما يهمل المناضلين من أجل إصلاحات حقيقية ودائمة هي اللازمة حقا من أجل السلام.
جاكلين بيرنز مستشارة سابقة للولايات المتحدة ومبعوثة خاصة للسودان وجنوب السودان وكبيرة المحللين السياسيين في منظمة (راند) غير الربحية وغير الحزبية.
«خدمة نيويورك تايمز».









