كيف نرجع للعيد روحانيته بعيدا عن الجانب الاستهلاكي؟
يرتبط العيد بمعاني الفرح والسرور والبهجة، كما انه يرتبط بمعاني روحية دينية، فنجد أن عيد الفطر يأتي بعد أداء فريضة من فرائض الإسلام وهي فريضة صوم شهر رمضان، ولكن بسبب النزعة المادية العصرية التي تصب اهتمامها على الجوانب الاستهلاكية، نجد ان هنالك غفلة عن المعاني الروحية التي من أجلها شرع العيد، وهذه المعاني هي تمثل القيم السامية التي حثنا عليها هذا الدين الحنيف، ولأجل استضهار تلك المعاني، ودعوة الناس إلى الاتفات إليها استشعارها، بالإضافة إلى الاهتمام الجزئي بالجانب المادي المتمثل في التجهيزات الاستهلاكية، التقينا بمجموعة من الباحثين لتصليت الضوء على هذا المحور.
فنجد الدكتور الأزهر بن زهران البراشدي يركز على الجوانب الروحانية المشروعة للعيد فيقول: لعيد الفطر كما شرعه الله عز وجل جوانب روحانية عديدة؛ فهو في المقام الأول فرحة وبهجة وسرور، فرحة للصائم الذي وفقه الله فصام رمضان إيمانا واحتسابا، وقد جاء عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلـم: "للصائم فرحتان، فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه".
ويقول الله تبارك وتعالى: "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون".
ومن الجوانب الروحية السامية التي شرعها الإسلام زكاة الفطر، فهي طهرة للصائم من اللغو والرفث والتقصير، ومساعدة للفقراء والمساكين المستحقين لها، تدخل على أنفسهم السعادة والحبور في أيام العيد المبارك، وتشعرهم بوقوف الميسورين معهم.
إصلاح ذات البين ويضيف البراشدي: ويعد العيد كذلك فرصة أخرى لإصلاح ذات البين بين المتخاصمين والمتقاطعين، فينبغي للمسلم أن يبادر إلى طيّ صفحة الخلاف والشقاق، وأن يصلح ما بينه وبين أخيه المسلم.
فما أجمل أن ينطلق المرء من هذه الجوانب الروحية السامية ليحتفل بالعيد من صلة للأرحام، ولبس للجديد، وأكل وشرب دونما إسراف أو تبذير.
وعلى الإنسان كذلك أن يبادر إلى الرحم مهنئا وداعيا، بزيارة القريب، والاتصال بالبعيد، وإدخال البهجة والسرور في نفوس الأطفال، مداعبا ومعيّدا.
لذلك تجد كثيرا من الناس يستشعرون هذه الجوانب السامية، فتراهم منذ رؤية هلال شوال يهنئون أهلهم وأرحامهم ومعارفهم بتمام الصوم، ودعائهم لهم ولأنفسهم بالأجر والقبول، وأن يبلغهم رمضان أعواما عديدة، وأداء زكاة الفطر في وقتها.
وأوضح البراشدي أنه: من جهة أخرى على الإنسان أن يجعل من العيد فرصة لمواصلة التغيير والتطوير، فقد اعتاد في رمضان الحفاظ على الصلوات، وشهود الجماعات، والقيام للسحور وصلاة الفجر، فهي فرصة للإنسان الذي اعتاد التسويف فيما سبق، واشتكى من ضياع الوقت أو عدم تنظيمه، أن يجعل من مستقبل أيامه عادة النوم المبكر، والاستيقاظ المبكر قبيل صلاة الفجر كما كان في شهر رمضان، ليبدأ بذلك يومه، موافقا لشرع الله وسيرة العظماء على مر التاريخ، ويكون العيد احتفالا له على ما أنجز من انضباط، ودافعا له لمواصلة ذلك.
مبينا أنه: مما يؤسف له أن يتخذ البعض العيد فرصة للمباهاة والإسراف؛ في الملبس أو المأكل والمشرب، فيرهق نفسه بشراء النفيس من الملابس التي لا طاقة له بها، ويكثر من الموائد التي تذهب في الأخير إلى مكب النفايات، ويغالي في شراء الأنعام واللحوم، بعيدا عن توجيه الله عز وجل له "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين"...
أو أن يعود إلى سيرته الأولى من تفويت الصلوات، والانغماس في الشهوات، والتقصير في جنب الله وعباده.
الجمال الداخلي أما الدكتور سعيد البرواني فين أن: كثيرا ما يتسابق المسلمون في أواخر شهر رمضان المبارك في شراء مستلزمات العيد من ملابس وأحذية وتجهيزات ليلتقوا بالعيد وهم في أبهى حلة وأجمل منظر، وهذا ما حث عليه ديننا الإسلامي في أيام الأعياد حيث يلتقي الناس بعضهم بعضا في أبهى المناظر وأجملها وفي أحسن الأوقات وأفضلها.
موضحا: أن الأجمل من ذلك التفات الإنسان إلى جماله الداخلي التي يزيده ألقا وبهاء، وهذا هو الجوهر الذي لا يتغير ويتبدل، فالجمال الحسي غير الجمال المعنوي، كما أن الجمال الخارجي ليس كالجمال الداخلي، ومن هنا كان حريا بالإنسان أن يلتفت إلى روحانية وجمال هذا العيد بدلا من السعي وراء مظاهره وقشوره.
وقال: بعد شهر الصيام والقيام، الشهر الذي تعلق فيه الإنسان بربه واقترب منه روحا، بعد هذا الشهر المكنوز سكينة وطمأنينة وبرا وطاعة، تأتي الجائزة الربانية من الله تعالى لتكون تتويجا لما قام به عباده في هذا الشهر الفضيل وما أعظمه من تتويج وما أعظمها من هدية عندما تأتي من الله خالق العباد إلى العباد.
مؤكدا على أن: هذا التتويج أتى ليستشعر المؤمن قيمة وتجليات هذا السباق الأخروي، فلم يكن عمله هباء منثورا على الصعيد الأخروي والدنيوي، فهو يجزى في هذه الدنيا بهذا الاحتفالية التي تمده بالسرور والفرح، وفي يوم مباشر بعد انتهاء هذا السباق وهذا الاختبار.
وأضاف: علينا أن لا ننسى بأن العيد ليس في حقيقته مظهرا أو شكلا بل هو مخبر ومضمون، يرتقي فيه البشر إلى أسمى مراتب الجمال الروحي فتغيب شجرة الأحقاد وتنبت بدلها نبتة المحبة، وتغيب (الأنا) وتظهر فيه (الجماعة)، ويتلاشى فيه الحزن ويتعالى فيه الفرح والسرور، إنه زمان التبدل من حال إلى حال ومن شعور إلى شعور.
مشيرا إلى أن العيد وحده هو القادر على ترميم الإنسان وإعادة بنائه من جديد، وهو الذي يرفع الإنسان من مدارك الطين إلى معارج السماوات، فهو يحلق بالمرء في جنبات الروح ويرتقي بها، فيه يصل الإنسان أخاه ويشاركه، فيه يجد الإنسان أقاربه ويصل برهم، فيه يجد الإنسان أمته فيلتحم بها، وقبل هذا وذاك فيه يجد الإنسان نفسه الأولى التي خلقه الله عليها.
التكافل الاجتماعي وقال البرواني: العيد فرصة للتكافل أيضا بعد هذا الشهر الفضيل، يخرج الإنسان زكاة الفطر فيطهر نفسه ويطهر ماله، ويعين به الآخرين على احتياجهم، والمؤمن سند لأخيه وعون له، كما أن العيدية التي تقدم للأطفال كفيلة أيضا بإدخال الفرح والسرور عليهم، ولا تتحقق السعادة عند البشر فرادى بقدر ما تتحقق معهم جماعات، فلا يعقل في العيد أن يفرح الغني ويحزن الفقير، ولا يتصور أيضا أن يفرح الكبير دون الصغير.
في العيد يرسم الناس للناس البسمة، وفي العيد تتجلى روحانية المؤمن الحق فيتعالى ويتعالى المجتمع معه، ويرسم العيد للعالم أجمل اللوحات الروحانية المبنية على الصفاء والنقاء والعلو والتكاتف والمحبة والتعاون والرحمة والمودة.
الاحتفاء بالإنجاز التعبدي وحول العيد وروحانيته يقول سعيد الصلتي: ليس العيد إلا احتفالا بالروحانية في أسمى معانيها، فبعد التحليق في شهر الصوم رمضان، وتحقيق ما فيه من فضائل روحية يأتي عيد الفطر ليضع الإنسان في مقام الاحتفاء بالإنجاز التعبدي، والظفر الذي حققه في شهر كامل، متنقلا بين الصيام والقيام والتعبد والتهجد، والصبر والتصبر، وتقويم النفس، وتهذيب الأخلاق، ثم يأتي اليوم الذي يشعر فيه المسلم بطعم الإنجاز، اليوم الذي يحمد فيه الله على نعمة الفطر التي تدوم معه عاما كاملا إلا شهرا، فيعلم أن فضل الله عليه عظيم، وفوق ذلك يرتبط ذلك اليوم بالتكبير الذي يدوي في مسامع المكان، ويعلو بين البيوت والوديان، ويصعد في معزوفة روحية تسجد لها أركان الوجود، ويسير الناس زرافات ووحدانا، ومشاة وركبانا، وهم يحملون قلوبا غسلها الصيام من الأدران، وأزاح عنها طباق الران، فتصافح النقاء من الصباح إلى المساء، في جو تملؤه علائق الصوم، وبقية التهجد، ونداء التراويح، وألوية السحر، فما يزال العيد يَفْجُرُ من ينابيعه على القلوب المفطرة الصائمة.
وأشار الصلتي إلى أنه في الأضحى تتعالى هتافات التكبير مع تلبيات الحجيج، فكأن الكرة الأرضية يومها في فلك يَسبَحُون وَيُسَبِّحُون، لا يحجبهم عن الحج بعد المسافة، فكلهم مُحرِم بالطاعة، متوجه لربه في لحظة لا تتكرر، فالنحر رمز لنحر الشهوات ونحر الخصومات، وتطهير للنفس من علائق الدنيا، وسفر قاصد إلى الآخرة، ومعراج بالروح مع الروح المسافرة، يقول أبو مسلم البهلاني في مقصورته: قد آن للإحرام أن نحله وننحر الهدي على رأس الصفا قد آن للصائم وقت فطره لطالما أرمض بالصوم الحشا وذهب الصلتي بقوله إلى أنه: ليس العيد الصخب والنصب، ولا المطاعم والمشارب، ولا الثغاء والرغاء، إنما ما يلف كل ذلك من روح تسكن حقيقته، وتغلف جوهره النظيف، العيد ذلك الفرح الذي فيه استشعار الفضل الرباني على الإنسان، في أن منحه هذه الفرصة ليعيد إلى قلبه المياه من جديد، فيه بعث للأمل، وراحة بعد العمل، ورسم للطريق إلى الله، ومحطة عبور يجمع فيها المرء شتات أمره، ويعيد الأمل إلى حياته رغم المشكلات، ورغم قسوة الحياة.
إدخال البهجة على قلوب الضعفاء أما عثمان العميري فيقول: مع إشراقة يوم العيد، تتمادى القلوب فرحًا، وتستبشر النفوس فألاً بمقدمه المبارك، الذي يأتي بعد شهر عظيم مليئ بالروحانيات والنفحات، والعبادات الزاكيات وهو شهر رمضان المبارك الذي أعد الله من الأجور ما لم يكن في غيره من الشهور لذا كان عيد الفطر السعيد جائزة عظيمة للصائم، مظهرًا من مظاهر الاستبشار اللتي تتوج المسلم عقب فريضة الصيام وما صاحبها من طاعات.
مبينا أن: روحانية العيد لا تقل عن أهمية رمضان وروحانيته، إلا أن عموم الناس يتجه إلى جزء واحد من أجزاء عديدة من هذه الروحانية وهو التوسع على الأهل في متطلبات الغذاء، والتوسع في إسعاد الأطفال، ولكن للعيد جوانب أخرى روحانية بالإمكان أن يتلمسها الشخص، مثل الفرح بتمام شعيرة الصيام وكذلك التهنئة بحلول عيد الفطر المبارك ولقاء أهل البلد الواحد وتهنئتهم به.
وأشار إلى أنه: تبدأ المظاهر التعبدية للعيد بعد غروب آخر يوم من رمضان وذلك بإخراج زكاة الفطر وهي بمقدار صاع مما يقتات عليه أهل البلد، وفي ذلك تعزيز لرواتب الأمن الغذائي في الإسلام وتعزيز الأواصر القائمة بين الناس وتقويتها ولكيلا يكون هنالك محتاج وقت العيد لما يريد أكله وفي ذلك إدخال للسرور والبهجة على قلوب الضعفاء والفقراء ووقت إخراج هذه الزكاة من غروب آخر يوم من رمضان إلى ما قبل صلالة العيد بقليل.
التكبير والتهليل ويصف لنا العميري صباح يوم العيد بقوله: يخرج المسلمون بعد طلوع الشمس إلى مصلياتهم رافعين أصواتهم بالتكبير والتهليل وهذا إظهار لعزة الإسلام والمسلمين في قلوب غيرهم وتكثير لهم ولعل بعضنا يخجل من هذا التصرف ولكن ليحاول كل منا أن يتمسك بعرف الدين ما استطاع ثم تقدم صلاة العيد على الخطبة وتكون الصلاة مليئة بالتكبيرات لما له من إظهار حمد الله وشكره، وبعدها يقوم الإمام خطيبا في الناس وفي ثنايا حديثه إظهار لنعمة الله ومنه على الناس بإكمال صيام شهر رمضان وما فيه من الخيرات والبركات، ليستشعر الإنسان حينها رحمة الله بعباده إذ من عليه بهذه المنن العظيمة وما فتح له من أبواب الخير للاقتراب منه، وبعد انقضاء صلاة العيد وخطبته، يفرح الناس بفضل الله عليهم إذ من عليه بهذا العيد فيصافحون بعضهم البعض تهنئة ومحبة بهذه الأجواء الرائعة والأوقات الطيبة، وهنا تظهر لحمة المسلمين ومحبتهم لبعضهم البعض بإزالة الشحناء بين القلوب وهذا بطبيعة الحال مظهر من مظاهر الحضارة الإنسانية في أسمى تجلياتها، وبعد ذلك يسلك المصلي طريقا آخر الذي سلكه حال مجيئه إلى المصلى ليجد من يجد من إخوانه للسلام عليهم وتهنئتهم بالعيد السعيد، ويصل إلى البيت ليجد أسرته ويهنأها بالعيد ويوسع على أطفاله بالهدايا النقدية وغيرها ويوسع عليهم بالمأكل والمغرب يوم العيد حسب الإمكانيات من غير إسراف أو كلفة والاقتصاد في ذلك من غير تركيز على هذا الجانب الاستهلاكي، ولا أنسى من اجتماع الأهل بينهم وتجديد العلاقات بين بعضهم البعض وكذا زيارة الأصدقاء والأحباب وهنا أتذكر عبارة تتردد بين الناس أن العيد "ليس فيه كرامة" أي ليس هناك داع للإسراف لإكرام الضيف فالأكل حاضر في حدود الممكن.
وهناك بالإمكان إعادة للعيد روحانيته بعيدا عن الجانب الاستهلاكي من خلال استشعار المظاهر التعبدية في العيد السعيد ليبقى للعيد سلاسة حضوره واشتياق حلوله..









