الوعي الغائب

Image

من الحقائق البديهية أن الإنسان قد امتاز على الحيوان بالوعي، أو لنقُل على وجه الدقة: بارتقاء الوعي.

ولهذا كان الإنسان البدائي قريبًا من عالم الحيوان في رتبته العليا، ليس فقط من حيث هيئته وإنما أيضًا من حيث تفكيره ومسلكه.

والعملية التي تم بها ارتقاء الوعي الإنساني كما تطورت عبر التاريخ هي الثقافة، وهي أيضًا الحضارة الإنسانية في تطورها التاريخي؛ فالثقافة والحضارة صنوان، وكلاهما ينتج عن ارتقاء الوعي في سائر تجلياته: كما في الوعي العلمي والديني والسياسي والتاريخي والفني أو الجمالي، إلخ.

ومن المهم أن نلاحظ في هذا الصدد أن الحضارة لا تعني التحديث أو استخدام أساليب ومنتجات العيش الحداثية؛ فكم من الدول والبلدان تستورد هذه الأساليب والمنتجات، بدءًا من مُنتجات العلم والتكنولوجيا وحتى المنتجات الثقافية من أفلام وفنون تشكيلية، من دون أن تكون تلك المنتجات نتاجًا لوعي علمي هو الذي أنتجها، ولوعي فني وجمالي هو الذي أبدعها؟! الحضارة دائمًا هي نتاج ارتقاء الوعي، فالوعي دائمًا يكمن وراءها ويشكل الأرضية التي تنبت فيها وتنمو كشجرة باسقة وارفة مثمرة.

ولا شك في أن الثقافة تشكل الجذع الأساسي الأكثر عمومية في بناء الوعي العام، حتى إنها تكاد تكون مرادفة لهذا الوعي.

هذا الوعي هو ما نفتقر إليه في مصر وفي واقعنا العربي المعاصر (وإن كان بدرجات متفاوتة)، وهو المسؤول عن غياب الحضارة في واقعنا الراهن؛ إذ لا يمكن تصور حدوث أي نهضة حقيقية من دون تحقق هذا الوعي وتحرره.

ولكن بناء هذا الوعي يواجه تحديات حقيقية لها أولوياتها: أهم هذه التحديات التي ينبغي مواجهتها هي حالة التعليم، وهي حالة متدهورة في عالمنا العربي بناءً على ما نعاينه في الواقع، وما نطالعه من تقارير المنظمات الدولية: فوفقًا للتقرير الصادر سنة 2023 عن المنتدى الاقتصادي العالمي، تحتل الدول العربية مراتب دنيا في مؤشر جودة التعليم.

ومما يدعو إلى الدهشة والأسى أن مصر -التي كانت لها ريادة التعليم في العالم العربي والإفريقي- تأتي في المرتبة 13 بين الدول العربية، وفي المرتبة 139 قبل موريتانيا مباشرةً، وهي المرتبة قبل الأخيرة عالميًّا! ولا شك في أن زيادة الميزانيات المخصصة للتعليم في بعض البلدان الخليجية، قد رفع من رتبة بعضها في مؤشر جودة التعليم في العالم العربي، ولكن هذا وحده لا يمكن أن يرفع من رتبتها كثيرًا في التصنيف الدولي العام.

ومن هنا، فإن الإصلاح الجذري لمنظومة التعليم في العالم العربي يصبح أمرًا ضروريًّا لإمكانية قيام أي نهضة حقيقية.

حقًّا إن المؤسسات الإعلامية لها دور مهم في تشكيل الوعي، وهي يمكن أن تسهم بقوة في مواجهة أزمة انقطاع التواصل في الوعي التاريخي لدى أجيال الشباب (على سبيل المثال)، وهي الأزمة التي تهدد بفقدان الهوية ذاتها، والتي تتبدى في ظواهر عديدة، منها: افتقار الشباب إلى الوعي بالأحداث والرموز التاريخية في مجالات السياسة والعلم والفن والأدب، التي شكلت تاريخهم وهوية بلدهم.

ومع ذلك، فإن التعليم يظل له أولويته؛ لأنه يشكل الأساس الذي يمكن البناء عليه، إذ إنه هو المنوط به تشكيل الوعي العام، بحيث يكون لدى الأجيال المتعاقبة الحد الأدنى اللازم للإحاطة بمناحي أو مجالات هذا الوعي.

وفضلًا عن ذلك، فإن التعليم هو المنوط به أن يمد الدارس بإعمال العقل، وبالفكر النقدي القادر على نقد كل ما يجافي التفكير العقلاني، بما في ذلك الأفكار التي تُبث عبر المؤسسات الإعلامية ذاتها.

وعلى هذا يمكن القول بأن مواجهة حالة غياب الوعي لا يمكن تحققها إلا من خلال مواجهة ضعف التعليم في العالم العربي، وذلك بوضع التعليم على رأس أولويات أي مشروع نهضوي؛ إذ إن الثقافة، ومن ثم الحضارة نفسها، غير ممكنة دون نهضة حقيقية في التعليم، لأن التعليم هو الأداة الأولى في النهوض بالثقافة والوعي.

ولقد سبق أن كتبت مقالات عديدة في هذا الصدد، في هذه الجريدة الرصينة وفي غيرها من الصحف العربية الكُبرى: كصحيفة الأهرام المصرية، والاتحاد الإماراتية؛ فليرجع إلى ذلك من يشاء.

ولكن حالة التعليم التي تمثل تحديّا ملحًّا، تسبقها حالة من التحدي أكثر إلحاحًا، وهي حالة الأمّية في كثير من بلدان العالم العربي: نسبة الأمّية في العالم العربي تصل إلى 25% تقريبًا في البالغين الذين تبلغ أعمارهم فوق 15 سنة، وتتضاءل هذه النسبة كثيرًا في بعض بلدان الخليج، ففي دولة مثل قطر نجد أن نسبة من لا يستطيعون القراءة والكتابة لا تزيد عن 2%.

ومن البديهي أننا لا يمكننا الحديث عن بناء أي وعي أو ثقافة أو تعليم قبل محو الأمية ذاتها.

والأهم من ذلك أن ننشئ تعليمًا حقيقيًّا يسهم في تأسيس وعي الدارسين، بجانب إمدادهم بالمهارات النظرية والتطبيقية في مجال تخصصهم المحدود.

ما أود أن أخلص إليه هو أن مسألة الوعي هي أزمة كبرى في واقعنا العربي، وهي أزمة تتبدى لنا في جلاء حينما نقارن واقعنا بواقع الأمم الأخرى؛ فنجد أنفسنا نتحدث عن أشياء وعن سرديات قد تجاوزها التاريخ..

اقرأ القصة الكاملة من الموقع الرسمي