الثعبان وطقس رفع اليدين
يقول حسين مؤنس عن الحضارة: (هي ثمرة كل جهد يقوم به الإنسان لتحسين ظروف حياته، سواء أكان الجهد المبذول للوصول إلى تلك الثمرة مقصودا أم غير مقصود، وسواء أكانت الثمرة مادية أم غير مادية) (الحضارة، ص13).
من هذا المنطلق أقول إن ثمرة الحضارة هي الأفعال التي نؤديها بأشكال مختلفة، أكانت ثقافية أم دينية أم سياسية أم اقتصادية، نطمح من خلالها إلى تحسين جودة حياتنا.
على مرّ التاريخ لم تخلُ حضارة من أَثَر بَيِّن، حتى تلك التي لم يعد لها أتباع؛ بقيت أطلالها تتحدث عنهم.
ما أود طرحه في هذه المقالة هو الحديث عن إحدى ثمار الإنسان القديم، جاءتنا من غَوْر الحضارة ولَبِثَت حتى يومنا هذا.
في هذه المقالة..
أحلل صورة أحد الرموز الذي استوقفني أثناء توثيق آثار مدينة كَدم، مُدعما رأيي بمراجع علمية قام بها متخصصون في المجال الحضاري القديم، من خلال المقارنة بين هذا الرمز وما كتبوه عن الرموز المشابهة له، بفرضيات أضعها بين يدي القارئ.
الدين والإنسان أغلب الباحثين في الحضارات القديمة يتفقون أن الإنسان العاقل تعود إليه أولى شذرات التدين، والذي يقدر أقدم وجود له بحوالي 300 ألف سنة، فالآثار المادية والجنائزية التي تركها هذا الإنسان تفسر لنا طبيعة التدين التي بدأها، وكيف وظف ما حوله في خدمة تدينه الأول الذي آمن به، وكيف عبّر عن مكنونه النفسي الذي يشعر به اتجاه الكائنات التي تعيش معه، ناحتا أجسادا وناقشا رموزا تُعبر عن تلك الحالة.
يقول والدي في تغريدة نشرها عبر تويتر بتاريخ: 23 أغسطس 2018م: إن الدين في عمان مر بثلاث مراحل كُبرى: الدين السحري والدين الفلكي والدين التوحيدي.
وأضيف إليه أن هذه المراحل لم تقتصر على عمان، بل شملت أديان العالم، لما وجدت من تشابه كبير بين الحضارات القديمة.
كان الإنسان في كل مرحلة من هذه المراحل يترك لنا شواهد تعبّر عن طبيعة ما يقوم به في حياته، من خلال الأطلال والرموز والمعتقدات، التي وصلت إلينا عن طريق التراكم المعرفي في العقائد الدينية، أو التناسخ الاجتماعي بين الأجيال، أو ما خبأته الأرض في باطنها من آثار.
الدين السحري هو أول مراحل التعبد لدى الإنسان، وكان هو السائد في عموم الأرض، يقول خزعل الماجدي في مقطع مصور عبر اليوتيوب: (السِّحر هو الدين الأول للإنسان)، ففي هذه المرحلة اعتقد الإنسان بأن الأرض وما فيها من كائنات مسيرة بقوى خفية (طاقة خفية)، وهي من تسيطر عليه، ومثالا على ذلك..
أنه عبد النار لكي تحميه من البرد الشديد، لما لها من قوة جعلته يشعر بالدفء، منقذة له من الموت.
وعبد الرياح لأنها تُحرك القوارب في البحر فيتنقل بها من منطقة إلى أخرى.
تفرَّعت عدّة مذاهب من الدين السحري..
منها: الشامانية؛ وهي مذهب شعوذي، والمنتسبون له يرون في أنفسهم القدرة على التحكم بالأشياء من حولهم، مثل: تحريك الأشياء من موضعها، أو علاج الناس بالترانيم الشعوذية.
والمذهب الطوطمي، يقول عنه خزعل الماجدي في كتابه «علم الأديان»: هو (ديانة مركبة من الأفكار والرموز والطقوس، تعتمد على العلاقة بين جماعة إنسانية وموضوع طبيعي يسمى الطوطم، والطوطم يمكن أن يكون طائرا أو حيوانا أو نباتا أو ظاهرةً طبيعية أو مظهرا طبيعيا، مع اعتقاد الجماعة بالارتباط به روحيا).
وتضمنت العلاقة بين الدين والسحر والشعوذة عدة تطورات خلال العصور القديمة، ففي بعض الأحيان كانت العلاقة إيجابية ومشجعة لتطوير الفنون والعلوم، وفي أحيان أخرى كانت العلاقة سلبية، تسببت في التشدد الديني.
الدين الفلكي يشير الدين الفلكي إلى الاعتقادات والطقوس الدينية التي تعتمد على الدراسة والملاحظة للفلك والأجرام السماوية.
كان الناس في الحضارات القديمة ينظرون إلى السماء وأجرامها على أنها قوة إلهية، وكانوا يؤمنون بأنها تؤثر على الحياة في الأرض.
وفيه بدأت تظهر ملامح توسع الإدراك الديني لدى الإنسان، فبعدما بدأ يكتشف غموض طبائع الأشياء التي عبدها في الدين السحري، وأخذ يتقن التعامل معها كالنار والرياح والجبال لجأ إلى الأجرام السماوية، التي هي بعيدة عنه، ولا يقدر على اكتشافها بيده، نسب إليها القوى الخفية (الطاقة الخفية)، فكان يرى أن في الأجرام السماوية كالشمس والقمر طاقات مخفية تتحكم به وتسيّر حياته اليومية، وأن بدونها لا يمكن أن ينزل الماء إلى الأرض، ولا تنبت التربة ثمارا يأكل منها، لذا؛ كلما عمّ قحط في أرض ما تضرع إلى السماء، حتى تنزل إليه هذه الطاقة الخفية ماءً تروي الأرض، في هذه المرحلة تصور الإنسان أن هذه النعم الموجودة لديه في الأرض متصلة اتصالا وثيقا بالأجرام السماوية، ثم تبلورت لديه قضية أصل الخليقة وأصل الكائنات في الأرض ومَن خلقها وكيف خُلقت.
كيف نشأت الرموز الصورية في الحضارات القديمة؟ الرمز الحضاري..
شكل صوري نقش على الصخور أو الألواح الطينية ليعبر عن وضع حركي أو شعور روحي يعيشه الإنسان في تلك لحظة.
فنجد أغلب الرموز البدائية الأولى تجسد فعل ما يقوم به كالصيد والرعي والحرب والتضرع إلى المعبود، لذا نشأت الرموز عن حالة إدراكية وصل إليها الإنسان العاقل ليعبّر عن موقف معين مراد منه تخليد حدث ما أو تفريغ الحالة الروحية التي بداخله.
فمثلا كان يُعبر عن حالة الغضب التي يشعر بها بنحت جسد إنسان وبجانبه الشمس، معبرا بذلك عن شعوره الداخلي الحزين بحرارة الشمس المتوهجة.
رجل رافع يديه وبجانبه الثعبان..ماذا يعني؟ ما سبق هو مقدمة لما أريد أن أحلله في هذه المقالة، وهي عبارة عن صورة رجل رافع يديه لأعلى، وبجانبه ثعبان في حركة متموجة.
بالرجوع إلى موقع الرمز في مدينة كَدم نجده مركبا من جزأين: جزء لإنسان يرفع يديه لأعلى، وجزء لثعبان ذي حركة متموجة.
وبجانب الرمز توجد كلمة نقشت بالحرف المسند القديم، الذي انتشر استعماله في جنوب شرق جزيرة العرب اليمن وعُمان.
وكذلك هناك بعض الرموز البشرية والحيوانية نقشت في حالة جسمانية مختلفة، تحتاج إلى من يحللها ويدرسها دراسةً حضاريةً مستفيضة.
ومما شجعني أن أكتب هذه المقالة هو أن الصديق جليل العبري أرسل لي على حسابي في الانستجرام صورة رمز شبيه، عثر عليه في وادي المصلة بولاية نزوى.
أولا: رفع الأيدي ودلالتها التعبدية رفع الأيدي لأعلى هو تعبير شائع في العديد من الثقافات والديانات، وقد تكون له دلالات تعبدية متشابهة أو مختلفة حسب السياق الديني والثقافي.
وهذا الرمز من أكثر الرموز انتشارا في العالم القديم، فقد تتبعته في الكتب الحضارية، والمواقع البحثية من خلال منصة جوجل البحثية، ووجدت أنه منتشر بكثرة في المنطقة الجغرافية الواقعة بين المحيط الهندي والمحيط الأطلسي.
وفي كل منطقة يحمل اسما مختلفا عن المنطقة الأخرى، فمثلا؛ في مدينة تاسيلي بالجزائر سُمي بـ«الإله سيفار» نسبة للمنطقة التي وجد فيها.
وفي شمال شرق النيجر عثر على رجل رافع يديه، أطلق عليه «رجل دجادو» نسبة إلى هضبة دجادو التي عثر عليه فيها.
وبقي في كثير من مناطق العالم لا يحمل اسما، لما يشوبه من غموض، منها: الجزيرة العربية والمنطقة الواقعة غرب قارة إفريقيا.
تقول زينب عبدالتواب وهي أستاذ مساعد بقسم الآثار المصرية بكلية الآثار في بحثها «الأوضاع التعبدية التي أظهرها الفن الصخري في مصر وشمال إفريقيا»: (كان رفع اليدين لأعلى من أول الرموز الدالة على التعبد في مفهوم الإنسان الأول، خلال عصور ما قبل التاريخ) وتضيف زينب: (يُعبر ذلك المنظر عن التهليل والدعاء بطلب الانتصار والغلبة في الصيد).
ويشير خالد سعد مصطفى في كتابه «الرسوم والنقوش الصخرية في الجلف الكبير» من خلال تتبعه لبعض الممارسات السلوكية التي لاقت قبولا واستحسانا عند تفسيرها بأنها تدل على مناظر تعبدية.
أما هيام حافظ روش تذكر في كتابها «الرمزية في تصوير أوضاع الرعدية في الأعياد والمناسبات في مصر القديمة» أن هذا الرمز انتشر كحركة تعبدية وطقسية في المواكب الجنائزية وعند الدفن وتقديم القرابين في مقابر الأفراد، ويستخدم الرمز أيضا للتعبير عن تعظيم المعبود أو الملك.
وهناك دلالات تعبدية أخرى لرفع الأيدي لأعلى، فيمكن أن يرمز إلى الإيمان وتحقيق التحول الروحي والإلهي.
ومما يُثير الدهشة ويطرح التساؤلات، كيف لهذا الطُقس تجسد فيه جليا مفهوم تلاقح الحضارات والأمم، وأخذ يرتحل من ديانة إلى غيرها وهو يؤدي ذات الدور العبادي؟ ولو قارنا بين الدينين المسيحي والإسلامي من حيث الدلالة التعبدية في الرفع اليدين لأعلى، نجد أن هذه الحركة تستعمل لذات الغاية وهي التضرع إلى الله عن طريق الصلاة أو الدعاء.
وما أذهب إليه عن دلالة رمز رفع اليدين لأعلى وانتشاره في عمان بأكثر من مكان راجع إلى الحقبة التي نشأ فيها، وهي التي تفشى فيها الدين الفلكي، فرفع اليدين دلالة على التضرع إلى إله السماء الذي يؤمن به المتعبد، راجيا منه أن يحقق ما يطلبه من أمنيات.
ثانيا: الثعبان ودلالته التعبدية لعب الثعبان دورا مهما في العصور السحيقة، ويعد رمز الثعبان من أكثر الرموز انتشارا حول العالم، لما له من أهمية وتأثير على المجتمعات القديمة، فكثيرا ما ارتبط بالطقوس الدينية الدالة على الخير والشر أو الخصوبة والقحط.
خلال تتبعي لدور الثعبان في الحضارات القديمة وجدته قد شغل مساحة كبيرة من الأسطورة، إذ إن هناك علاقة وثيقة بين الإنسان والثعبان، تغلغلت في صلب الاجتماع البشري قديما، وجدتها بارزة في اللغة والدين والأسطورة، وكان للأسطورة النصيب الأوفر في ذكر الثعبان، وخاصة تلك التي ذكرت أصل الخليقة، أو نشأة الكون.
تقول الأسطورة السومرية وهي من أقدم الأساطير التي دونها الإنسان: الرب خلق آدم وحواء وأفعى في آن واحد، وقد أغوت الأفعى آدم وأخرجته من الجنة.
في مصر قديما، كان الثعبان يرمز إلى الخلود والحكمة، وكانت تعتبره الحضارة الفرعونية أحد الرموز الأساسية للطاقة الإبداعية، ويستخدم في الطب والعلاج بشكل عام.
أما لدى الإغريق، كان الثعبان يرمز إلى الشجاعة والحكمة والحرية، وقد كانت الثعابين تنحت على الأسلحة الحربية لتشجيع المحاربين وإعطائهم القوة والشجاعة.
وفي الحضارة الصينية القديمة، كان الثعبان يرمز إلى العظمة والحكمة والقوة الروحية، ويستخدم في الطب لعلاج الأمراض المستعصية، وما أذهب إليه عن دلالة رمز الثعبان وانتشاره في عمان والعالم ككل راجع إلى الحقبة التي نشأ فيها هذا الرمز، وهي التي انتشرت فيها الديانة السحرية.
الخلاصة علم الحضارة هو علم تراكمت فيه علوم وثقافات وديانات البشر على مر التاريخ، فالرمز الذي قمت بتحليله أخضعته لهذا المنهج التراكمي، فهو مركب من جزأين: الجزء الأول لرجل رافع يديه لأعلى.
والجزء الثاني لثعبان في حركة متموجة، مما يعني أن هناك تلاحقا بين حقبتين دينيتين تجسدتا في رمز واحد، ساد فترة ما من تاريخ التدين في عمان، وهي حقبة الانتقال من الدين السحري إلى الدين الفلكي..









