«ويش أسوّي بالورق»
الكتب القديمة تُحيلك، بالضرورة، إلى دور النشر القديمة التي كان لها دور مبكر في نقل الآداب الشعرية والروائية بين الشعوب بترجمات صادقة صافية لم تكن آنذاك عرضة لجشع المترجمين أو بعضهم ممّن حوّلوا الترجمة إلى تجارة، وبخاصة، في زماننا هذا.
من حسن حظ كاتب هذه السطور أنه كان مولعاً في شبابه في مطلع الثمانينات بشراء الكتب (وإلى الآن)، وما أجمل دخول مكتبة عتيقة فيها رائحة الورق وحبيبه الحبر، الحبر الأسود، بالطبع، علامة الكتابة منذ الجاحظ وإلى اليوم.
المكتبات العتيقة تلك تكون في العادة شحيحة أو خفيفة الإضاءة، ذات ممرّات ومداخل مزدحمة بالكتب، وفي الغالب نجد «المكتبجي» المتقدّم في العمر عادة، ذا الشيب الوقور جالساً في آخر المكتبة وراء طاولة خشبية عتيقة صغيرة، أمامه كتاب و«استكانة» شاي.
ما أجمل هؤلاء الرجال المكتبجيين القدامى المكتهلين بالثلج الأبيض على رؤوسهم التي امتلأت بالكتب.
ما أجملهم، وما أكثر ما رأيتهم في مكتبات صغيرة ضعيفة الإضاءة في بغداد، ودمشق، والقاهرة، وعمّان، وكلهم صاروا أصدقاء كما هم أولئك الأصدقاء الذين نكسب معرفتهم عند أكشاك الكتب في أرصفة المدن العتيقة أيضاً، حتى ولو كانت صداقات عابرة.
لديّ كتاب قديم هو مجموعة قصص قصيرة للكاتبة الصينية شياو هونج (1911-1942).
عاشت 31 عاماً فقط، وتقول سيرة مقتضبة حول حياتها في مقدّمة هذه المجموعة القصصية إنها كانت مُعْتَلّة بدنياً، ووقعت في خضم مشكلات في أيام حرب المقاومة ضد اليابان، غير أنني هنا أصرف النظر عن القاصّة وقصصها، لأعود بالقارئ إلى الخلف نحو خمسة وسبعين عاماً حين كتبت هذه القصص في الصين، وفي ما بعد، تتولى نشرها دار نشر تُسمى «دار اللغات الأجنبية» 24 شارع باي وان تشوانغ بكين – الصين.
ومثل هذه المعلومات والعناوين التي كانت تتضمن أرقام الشوارع والهواتف وصندوق البريد كانت مألوفة في التعريف البريدي والمكاني بدور النشر التي كانت نشطة في سبعينات وثمانينات القرن العشرين في موسكو وبكين.
زمان وانقضى، ولم يبق منه سوى الحنين إلى تلك الكتب القديمة «والقديم ما بيعتق»، يقول جوزيف حرب بصوت فيروز.
الحنين إلى أولئك المكتبجية الهرمين الذين يتدفّأون بالقرب من سور الصين العظيم، أو في الساحة الحمراء في موسكو.
ما هو حنين إلى الأيديولوجيا الحمراء الكاذبة التي كانت محشوة بتلك الكتب، بل حنين إلى العناوين، إلى الورق والحبر، إلى صندوق البريد والرسائل و«لا تردّين الرسايل، ويش أسوّي بالورق»..












